اليمن اليوم يعيش حالة تركيبية من اضطراب سياسي مؤسَّس على ضعف مؤسساتي، وشرذمة أمنية محلية بدعم خارجي، تتحكم بمناطق نفوذ، واقتصاد هشّ ينهِك قدرة الدولة على تأمين أبسط خدماتها. الاحتجاجات المتكررة على انقطاع الكهرباء وتأخير الرواتب ليستَ مجرد شكاوى بل إنذار قوة: أي مشروع سياسي لا يبدأ بعلاج وضع المواطن المعيشي يفقد شرعيته قبل أن يولد.
قراءة موجزة في أسباب الإخفاق
عقدة الثقة والضمانات الضعيفة. اتفاق الرياض احتوى جداول زمنية وخطط دمج، لكن غياب آليات تنفيذية ملزمة وعقوبات أو محفزات واضحة ترك البنود رهينة النوايا الحسنة. حين لا تكون هناك ثقة ولا ضمانات رادعة، تبقى التواقيع أسطرًا على ورق.
تداخل النفوذ الإقليمي وتباين الأولويات. فاعلون إقليميون ودوليون لعبوا (وما زالوا) أدوارًا موازية: داعمون للتسوية من جهة، لكن لهم أولويات محلية واستراتيجيات نفوذ أحيانا تتقاطع مع أهداف الدولة الموحدة وسيادتها الوطنية، فتنزلق التنفيذات إلى صراعات نفوذ أكثر من كونها خطوات دمج.
الانفتاح على تبدلات بنيوية (تحول السلطة ٧ابريل ٢٠٢٢م). انتقال السلطات إلى مجلس القيادة الرئاسي، و أعادة رسم مشهد القرار، لكنه لم يُنتج وحدة فعلية على الأرض بين مكوّنات الوطنية، بل أضاف مستوى جديدًا من التعقيد المؤسسي.
الانهيار الخدمي والاقتصادي كمحرك للاحتقان. أزمات الكهرباء، انقطاع الوقود، تأخير أو تجميد الرواتب وتردي الخدمات دفع المواطنين إلى الشارع؛ فحين تُعاني المدن من انقطاع للتيار ١٠–١٨ ساعة يوميًا وتتوقّف رواتب المدنيين، تتحول الأولويات الشعبية من بنود التفاهم السياسي إلى لقمة العيش. الاحتقان الاجتماعي بهذه السهولة يقوّض أي صفقة سياسية غير مُعزَّزة بجبهة خدماتية فورية.
التشظي الأمني والعسكري. الوعود بترقيم القوات وضمّها تحت قيادتي الدفاع والداخلية اصطدمت بمخاوف أمنية ولوجستية وسياسية؛ فالتشكيلات المحلية والـ«مليشا» أوجدت نفوذًا محليًا لا يسهل تفكيكه دون ضوء أخضر يُعالج مخاوف العناصر وقياداتها.
مؤشرات الحل — باب صغير للواقعية الممكنة
الحلّ لا يأتي دفعة واحدة. يجب أن يكون مزيجًا من إجراءات الطوارئ والبناء المؤسساتي؛ وفي ما يلي مؤشرات عامة لكن عملية:
أولوية إنقاذ الخدمات والرواتب (بناء ثقة شعبية). صندوق دولي-إقليمي مؤقت لصرف الرواتب وإدارة واردات أساسية (وقود، كهرباء، دعم سلع غذائية مهمة) لمدة محددة مع رقابة شفافة وبرنامج إصلاح مالي. نجاح هذا المقياس يبني ثقة تُسهِم لاحقًا في حلول سياسية وأمنية.
آليات تنفيذ محايدة ومُلزمة لاتفاقات الدمج. رقابة دولية/إقليمية شفافة على مراحل نقل الأسلحة وترقيم القوات، بحيث تكون هناك عقوبات واضحة ومكافآت تنفيذ. بدون رقابة مُلزِمة، تبقى المهل الزمنية مجرد توقعات.
تحويل التشكيلات المليشاوية إلى أُطر قانونية خاضعة للدولة. تعبئة هذه القوى عبر برامج دمج تُمنح عناصرها ضمانات أمنية ومعاشية مقابل الخضوع للمؤسسات: دمج في الجيش النظامي، أو تشريع كقوات احتياطية محلية تحت قيادة وزارتي الدفاع والداخلية مع آليات واضحة للمساءلة. هذا الطريق يحمي الدولة من تفجّر شبكات مسلحة موازية.
إصلاح مالي وهيكلي طويل الأمد. إعادة هيكلة إدارة الموارد (نفط، جمرك وغيرها) إلى حساب مركزي شفاف في المصرف المركزي، مع إشراف برلماني وخبراء دوليين؛ هذا ليس رفاهية بل ضرورة لاستمرارية مرتبات الدولة وخدماتها.
حوار سياسي شامل بشروط واضحة. يجب أن يكون الحوار وطنياً (شمالًا وجنوبًا، شرقاً وغرباً، و سلطات محلية، قبائل، مجتمع مدني، أحزاب، نساء، وشباب) برعاية أممية/إقليمية تُقدّم ضمانات تنفيذ، ومُؤطَّرًا بجدول زمني واضح لإنجازات مرحلية قابلة للقياس.
من يصنع الحلّ؟ الجهات ومهامها العملية
لا حلّ حقيقي دون تقاسم واضح للمسؤوليات — وتحديد من عليه أن يصنع القرار ويُنفّذ:
مجلس القيادة الرئاسي (الجهة التنفيذية العليا). عليه أن يتبنّى أولوية إنقاذ الخدمات كسياسة دولة، ويصدر قرارات تنفيذية ملزمة بشأن ترسيم القوات، تحويل الإيرادات، وتشكيل لجان رقابية. يجب أن يضع خارطة طريق تنفيذية قصيرة المدى (0–6 أشهر) ومؤشرات قياس واضحة.
الحكومة (رئاسة الوزراء والوزارات المختصة). مسؤولية إدارة الصندوق المؤقت، إشراف البنى التحتية والقطاع الخدمي، وتطبيق سياسات الشفافية المالية. تتطلب قدرة تنفيذية وإدارة كفاءات مستقلة.
الأحزاب السياسية. عليها تبنّي خطاب وطني يقدّم حلولًا بديلة عن الاستقطاب؛ دعم إصلاحات مالية ومؤسسية، والعمل كوسيط بين السلطة والمجتمع لتعزيز شرعية الإجراءات. الأحزابُ ليست فقط خصوماً بل شركاء في إدارة التحول.
منظمات المجتمع المدني والقوى الشعبية. دور رقابي ومؤسساتي في مراقبة صرف المساعدات والرواتب، ونشر الوعي المجتمعي، والمشاركة في صياغة الإصلاحات المحلية. حضورهم ضروري لمنح المشروع الشرعية الشعبية.
التشكيلات العسكرية المحلية. مطلوب تحويلها عمليًا إلى وضع قانوني مُنظَّم: دمج عناصر مدربة ومُنظَّمة داخل القوات النظامية، أو تشريعها كقوات محلية تحت إشراف وزارتي الدفاع والداخلية، مع برامج انتقائية للدمج، وتأمين بدائل مادية لِمن يواجهون عوائق الاندماج. هذا ما يُثبّت سيادة الدولة ويمنح المجتمعات المحلية أمانًا مُنظَّماً.
شروط نجاح الخطة (قواعد ذهبية)
البدء بالخدمة ثم بالسياسة: النجاح يتطلب أن يشعر الناس بتحسّن ملموس قبل أن يُطلب منهم التسليم لصفقات سياسية كبرى.
ضمانات تنفيذية ورعايات دولية مُلزمة: لا يكفي الاتفاق وشهادة رعاية — يجب أدوات تنفيذية قابلة للقياس وعقوبات على مَن يخالف.
شفافية ومساءلة دائمة: نشر تقارير دورية للبرلمان والمجتمع المدني عن الإيرادات والمصروفات وإجراءات الدمج.
خارطة طريق زمنية ومؤشرات أداء: كل بند يجب أن يكون له هدف زمني ومؤشر قياس واضح.
اليمن بين خيارين فقط
اليمن لا يقبل أن يبقى في منطقة رمادية بين اتفاق بلا تنفيذ وفوضى خدماتية تزيد الاحتقان. هناك طريقان: إما تحويل التفاهمات إلى إجراءات ملموسة تحفظ الدولة والمواطن، أو تمديد أزمة الخدمات والسيادة حتى تتآكل الأسس الأخيرة للشرعية. الطريق الأول صعب لكنه ممكن: يبدأ بصندوق للرواتب، بمشاريع طاقة عاجلة، بلجان تنفيذ محايدة، وبرامج دمج لصالح الدولة والمجتمع. وهذا يتطلب قرارًا سياسياً حازماً من مجلس القيادة الرئاسي، وتنفيذًا مهنياً من الحكومة، وتعاونًا من الأحزاب والمجتمع المدني، وامتثالًا من التشكيلات العسكرية لقانون دولة واحدة.
أمامنا اليوم فرصة لإعادة صوغ العقد الوطني: ليس عبر وعود سياسة فحسب، بل عبر ملفات يومية — كهرباء، ماء، رواتب، أمن — تجدد ثقة المواطن بالدولة. إن نجح ذلك، سيتكوّن من صلب الحاجة ميثاقٌ جديدٌ للبناء؛ وإن فشل، فستبقى التواقيع مطوية في أدراج التاريخ، وتبقى المدن بلا ضوء يحميها ولا خبز يقرّ أعينها.
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الجمعة ٧ نوفمبر ٢٠٢٥م